كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وتأمل {أَنِ اقذفيه} [طه: 39] والقذف إلقاء بقوة، لا أنْ تضعه بحنان ورفق؛ لأن عناية الله ستحفظه على أي حال {فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} [طه: 39] وهذا أمر من الله تعالى لليمِّ أن يخرج الوليد سالمًا إلى الساحل؛ لذلك لم يأت في هذا الوحي ذِكْر لعملية الرضاعة.
فكأن الوحي الأول جاء تمهيدًا لما سيحدث؛ لتستعد الأم نفسيًا لهذا العمل، ثم جاء الوحي الثاني للممارسة والتنفيذ، كما تُحدِّث جارك، وتُحذِّره من اللصوص وتنصحه أنْ يحتاط لهذا الأمر، فإذا ما دخل الليل حدث فعلًا ما حذّرتَه منه فَرُحْت تنادي عليه ليسرع إليهم ويضربهم.
لذلك يختلف أسلوب الكلام في الوحي الأول، فيأتي رتيبًا مطمئنًا: {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين} [القصص: 7] هكذا في نبرة هادئة لأن المقام مقام نصح وتمهيد، لا مقام أحداث وتنفيذ.
أما الوحي الثاني فيأتي في سرعة، وبنبرة حادة: {أَنِ اقذفيه فِي التابوت فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} [طه: 39] فالعَجلة في اللفظ تدلُّ على أن المقام مقام مباشرة للحدث فعلًا.
وفي الأولى قال: {فَأَلْقِيهِ} [القصص: 7]، أما في الثانية فقال: {فاقذفيه} [طه: 39] والأم لا تقذف وليدها، بل تضعه بحنان وشفقة، لكن الوقت هنا ضيِّق لا يتسع لممارسة الحنان والشفقة.
والأمر لليمِّ بأن يلقي التابوت بالساحل له حكمة؛ لأن العمق موضع الحيوانات البحرية المتوحشة التي يُخاف منها، أمَّا بالقُرْب من الساحل فلا يوجد إلا صغار الأسماك التي لا خطورة منها، وكذلك ليكون على مَرْأى العين، فيطمئن عليه أهله، ويراه مَنْ ينقذه ليصل إلى البيت الذي قُدِّر له أنْ يتربّى فيه.
وفعلًا، وصل التابوت إلى الساحل، وكان فرعون وزوجته آسية وابنته على الشاطىء، فلما أُخرِج لهم التابوت وجدوا فيه الطفل الرضيع، وكان موسى عليه السلام أسمر اللون، مُجعَّد الشعر، كبير الأنف، يعني لم يكُنْ عليه السلام جميلًا تنجذب إليه الإنظار ويفرح به مَنْ يراه.
لذلك يمتنُّ الله عليه بقوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} [طه: 39] أي: ليس بذاتك أن يحبك مَنْ يراك إنما بمحبة الله، لذلك ساعة رأته آسية أحبَّته وانشرح صدرها برؤيته، فتمسكَّت به رغم معارضة فرعون لذلك.
كما أن ابنة فرعون، وكانت فتاة مبروصة أصابها البرص، ورأت في الرؤيا أن شفاءها سيكون بشيء يخرج من البحر، فتأخذ من ريقه، وتدهن موضع البرص فيشفى، فلما رأتْ موسى تذكرتْ رؤياها، فأخذت من ريقه ودهنتْ جلدها، فشُفِيت في الحال فتشبثتْ به هي أيضًا.
فاجتمع لموسى محبة الزوجة، ومحبة البنت، وهما بالذات أصحاب الكلمة المسموعة لدى فرعون، بحيث لا يرد لهما طلبًا.
وفي انصياع فرعون لرغبة زوجته وابنته وضعفه أمامهما رغم ما يعلم من أمر الطفل دليلٌ على أن الزوجة والأولاد هما نقطة الضعف عند الرجل، ووسيلة السيطرة على شهامته وحزمه، والضغط على مراداته.
لذلك يطمئننا الحق تبارك وتعالى على نفسه، فيقول سبحانه وتعالى: {مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا} [الجن: 3].
ذلك لأن الصاحبة غالبًا ما تستميل زوجها بوسيلة أو بأخرى، أما الولد فيدعو الأب إلى الجبْن والخضوع، والحق تبارك وتعالى لا يوجد لديه مراكز قوى، تضغط عليه في أي شيء، فهو سبحانه مُنزَّه عن كل نقص.
وحكوا في دعابات أبي نواس أن أحدهم وسَّطه ليشفع له عند الخليفة هارون الرشيد، فشفع له أبو نواس، لكن الخليفة لم يُجِبْه إلى طلبه، وانتظر الرجل دون جدوى، ففكر في وساطة أخرى، واستشفع بآخر عند زبيدة زوجة الرشيد، فلما كلَّمته أسرع إلى إجابة الرجل، وهنا غضب أبو نواس وعاتب صاحبه الرشيد، لكنه لم يهتم به، فقال له اسمع إذن:
ليسَ الشَّفِيعُ الذِي يأتِيكَ مُؤتزرًا ** مثْلَ الشَّفِيع الذِي يأتِيكَ عُرْيانا

ولهذه العناية الإلهية بموسى عليه السلام نلحظ أنه لما قال له ربه {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} [طه: 24] خاف موسى من هذه المهمة، وكان اسم فرعون في هذا الوقت يُلقي الرعب في النفوس، حتى أن موسى وهارون قالا {رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى} [طه: 45].
لذلك طلب موسى من ربه ما يُعينه على القيام بمهمته: {قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لي أَمْرِي واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي يَفْقَهُواْ قَوْلِي واجعل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشدد بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا موسى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى} [طه: 25- 37].
أي: أوتيت كل مسئولك ومطلوبك.
ثم يقول الحق سبحانه: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ}.
اللَّقطُ واللُّقطة: أن تجد شيئًا بدون طلب له، ومنه اللقيط، وهو الطفل الرضيع تجده في الطريق دون قَصْد منك، أو بحث. وكذلك كان الأمر مع التابوت، فقد جاء آل فرعون وهم جلوس لم يَسْمعَوْا إليه، ولم يطلبوه، فما أنْ رأوه أخذوه، لكن ما علة التقاطه؟
الزوجة قالت {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ} [القصص: 9] وقالت في حيثية أخرى: {عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص: 9] فلم يكن لهم بنون، فأرادوا أخًا للبنت، وأرادته البنت صيدلية علاج، لكن هل ظلتْ هذه العلة قائمة ووجدت فعلًا؟
لا، إنما التقطوه لتقدير آخر {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8] لا ليكون قرة عين، فاللام هنا في {لِيَكُونَ} [القصص: 8] لام العاقبة يعني: كان يفكر لشيء، فجاءت العاقبة بشيء آخر.
وفي هذا إشارة وبيان لغباء فرعون والطمس على بصيرته وهو الإله!! فبعد أنْ حذَّره الكهنة، وبعد الرُّؤْيا الي رآها وعِلْمه بخطورة هذا المولود على مُلْكه وعلى حياته يرضى أنْ يُربِّيه في بيته، وهذا دليل صِدْق قوله تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24].
ومعنى {وَحَزَنًا} [القصص: 8] يعني حُزْن مثل: عَدَم وعُدْم، وسَقَم وسُقْم، وبَخَل وبُخْل، فالمعنى يأتي بالصيغتين.
وقول الحق سبحانه: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ} [القصص: 8].
هم خاطئون؛ لأن تصرفاتهم لا تتناسب مع ما عرفوه من أمر الوليد، فلم يُقدِّروا المسائل، ولم يستنبطوا العواقب، وكان عليهم أن يشكُّوا في أمر طفل جاء على هذه الحالة، فلابد أن أهله قصدوا نجاته من يد فرعون.
{وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)}.
معنى {قُرَّةُ عَيْنٍ} [القصص: 9] مادة قرَّ تقول: قرَّ بالمكان يعني: أقام وثبت به، ومنه قرور يعني: ثبات، وتأتي قرَّ بمعنى البرد الشديد، ومنه قول الشاعر:
أَوْقِدْ فإنَّ الليْلَ لَيْلٌ قُرٌّ ** والرِّيحُ يَا غُلاَمُ رِيحٌ صرّ

إنْ جلبْتَ ضَيْفًا فأنتَ حُرّ

إذن: قرة العين إما بمعنى ثباتها وعدم حركتها، وثبات العين واستقرارها إما يكون ثباتًا حسيًا، أو معنويًا، والثبات المعنوي: أنْ تستقر العين على منظر أو شيء بحيث تكتفي وتقنع به، ويغنيها عن التطلُّع لغيره.
ومنه قولهم: فلان ليس له تطلعات أخرى، يعني اكتفى بما عنده، ومنه ما قال تعالى مخاطبًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ} [طه: 131].
لذلك يُسمُّون الشيء الجميل الذي يجذب النظر، فلا ينظر إلى غيره قيد النظر يقول الشاعر:
سَمَّرْتُ عَيْني في القَمَرِ ** فَنَالَ مِنِّي مَنْ نَظَر

يَا ليْتَ لائمي عذر ** فحُسْنه قَيْد النَّظرْ

أما الثبات الحسي فيعني: ثبات العين في ذاتها بحيث لا ترى، ومنه قول المرأة للخليفة: أقرَّ الله عينك، وأتم عليك نعمتك. تُوهِم أنها تدعو له، وهي في الحقيقة تدعو عليه تقصد: أقرَّ الله عينك.
يعني: سكَّنها وجمدها بالعمى، وأتمَّ عليك نعمتك. وتمام الشيء بداية نقصه على حَدِّ قول الشاعر:
إذَا تَمَّ شَيء بَدَا نَقْصُه ** ترقَّبْ زَوَالًا إذاَ قِيلَ تَمّ

أما القرُّ بمعنى البرد، فمن المعلوم عن الحرارة أن من طبيعتها الاستطراق والانتشار في المكان، لكن حكمة الله خرقتْ هذه القاعدة في حرارة جسم الإنسان، حيث جعل لكل عضو فيه حرارته الخاصة، فالجلد الخارجي تقف حرارته الطبيعية عند 37ْ، في حين أن الكبد مثلًا لا يؤدي مهمته إلا عند 40ْ.
أما العين فإذا زادتْ حرارتها عن 9ْ تنصهر، ويفقد الإنسان البصر، والعجيب أنهما عضوان في جسم واحد، فهي آية من آيات الله في الخلق، لذلك حين ندعو لشخص نقول له: أقرَّ الله عينك يعني: جعلها باردة سالمة، ألاَ ترى أن الإنسان إذا غَضِب تسخنُ عينه ويحمّر وجهه؟
فالمعنى هنا {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ} [القصص: 9] يعني يكون نعمة ومتعة لنا، نفرح به ونقنع، فلا ننظر إلى غيره.
وفي موضع آخر يشرح لنا الحق سبحانه قُرَّة العين: {قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ والقآئلين لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلًا أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} [الأحزاب: 18- 19].
فهؤلاء تدور أعينهم هنا وهناك كما نقول نحن: فلان عينه لا يجة يعني: لا تهدأ، إما من خوف، أو من قلق، أو من اضطراب، وهذا كله ينافي قُرَّة العين.
وقولها بعد ذلك {لاَ تَقْتُلُوهُ} [القصص: 9] تعني: أنهم فعلًا هَمُّوا بقتله، ففي بالهم إذن أن هلاك فرعون على يدي هذا الطفل، وهم على يقين من ذلك.
{عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [القصص: 9] يعني: لا يشعرون بنفعه لهم أو عدم نفعه، وهل سيكون لهم ولدًا أم عدوًا؟. اهـ.